فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} يعني الرؤساء والأتباع {يَتَسَاءَلُونَ} يتخاصمون.
ويقال لا يتساءلون فسقطت لا.
النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهّم أن هذا من قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام، فيقول أحدهم: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك لما نفعتني، أو أسقطت لي حقًا لك عليّ، أو وهبت لي حسنة.
وهذا بيّن؛ لأن قبله {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}.
أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم؛ كما جاء في الحديث: «إن الرجل لَيُسَرّ بأن يصح له على أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات» وفي حديث آخر: «رحم الله امرءا كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زِيد عليه من سيئات المطالب» و{يَتَسَاءَلُونَ} هاهنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضًا ويوبخه في أنه أضلّه أو فتح له بابًا من المعصية؛ يبيّن ذلك أن بعده {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} قال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين.
قتادة: هو قول الإنس للجن.
وقيل: هو من قول الأتباع للمتبوعين؛ دليله قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} [سبأ: 31] الآية.
قال سعيد عن قتادة: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها.
وعن ابن عباس نحو منه.
وقيل: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح.
والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح.
وقيل: {تَأَتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدّقناه.
وقيل: تأتوننا من قِبل الدِّين فتهوِّنون علينا أمر الشريعة وتنفِّروننا عنها.
قلت: وهذا القول حسن جدًا؛ لأن من جهة الدِّين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدِّين؛ أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوّة؛ أي تمنعوننا بقوّة وغلبة وقهر؛ قال الله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا باليمين} [الصافات 93] أي بالقوّة وقوّة الرجل في يمينه؛ وقال الشاعر:
إذا مَا رَايةٌ رُفِعتْ لمجدٍ ** تَلّقاها عَرابَةُ باليمين

أي بالقوّة والقدرة.
وهذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي من قبل الحق أنه معكم؛ وكله متقارب المعنى.
{قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم.
وقيل: من قول الرؤساء؛ أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للإلف والعادة.
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي من حجة في ترك الحق.
{بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أي ضالين متجاوزين الحد.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ} هو أيضًا من قول المتبوعين؛ أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
وهذا موافق للحديث: «إن الله جل وعز كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم» {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أي زيّنا لكم ما كنتم عليه من الكفر {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} بالوسوسة والاستدعاء.
ثم قال خبرًا عنهم: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} الضال والمضل.
{إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثل هذا الفعل {نَفْعَلُ بالمجرمين} أي المشركين.
{إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا قيل لهم قولوا فأضمر القول.
و{يَسْتَكْبِرُونَ} في موضع نصب على خبر كان.
ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر إنّ، وكان ملغاة.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند موته واجتماع قريش: «قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم» أبَوْا وأنِفُوا من ذلك.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى في كتابه فذكر قومًا استكبروا فقال: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ}» وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الْحُدَيْبِيَة يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدّة؛ ذكر هذا الخبر البيهقي، والذي قبله القشيري.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أي لقول شاعر مجنون؛ فردّ الله جل وعز عليهم فقال: {بَلْ جَاءَ بالحق} يعني القرآن والتوحيد {وَصَدَّقَ المرسلين} فيما جاءوا به من التوحيد.
{إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا العذاب الأليم} الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة.
ويجوز النصب كما أنشد سيبويه:
فألْفيتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ** وَلاَ ذَاكرِ الله إلاَّ قليلا

وأجاز سيبويه {وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةَ} على هذا.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إلا بما عملتم من الشرك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء {يَتَسَاءلُونَ} يسألُ بعضُهم بعضًا سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيفَ تساءلون فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدُّنيا {عَنِ اليمين} عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السَّانحِ فتبعناكم فهلكنا، مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يمينًا ويُتيمَّن بالسَّانحِ أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون أنَّهم على الحقِّ.
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طاغين} مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه {فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي لزمنا وثبتَ علينا {قَوْلُ رَبّنَا} وهو قولُه تعالى: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ {فأغويناكم} فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوةً غيرَ مُلجئةٍ فاستجبتُم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ {إِنَّا كُنَّا غاوين} فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ.
{فَإِنَّهُمْ} أي الأتباعُ والمتبُوعينَ {يَوْمَئِذٍ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية {إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ {نَفْعَلُ بالمجرمين} المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ {لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبولِ {وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ {إِنَّكُمْ} بما فعلتُم من الإشراكِ وتكذيبِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والاستكبارِ {لَذَائِقُو العذاب الاليم} والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم. وقُرئ بنصبِ {العذابِ} على تقديرِ النُّون كقولهِ:
ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلًا

وقُرئ {لذائقونَ العذابَ} على الأصلِ.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الإجزاءَ ما كنتُم تعملونَه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}.
هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروى هذا عن مجاهد.
وقتادة.
وابن زيد {يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضًا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال.
{قَالُواْ} استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقًا للقرناء {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدنيا {عَنِ اليمين} أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلامًا دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازًا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازًا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابًا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولًا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع {تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز؛ وكأن المراد بالخير الايمان بما يجب الايمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرًا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرًا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكى هذا عن الزجاج.
وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازًا مرسلًا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين موضع الكبد، وهو مخالف لما حكى عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحمًا ولم يؤد زكاة.
{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)}.
{قَالُواْ} استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الإضراب عما قالوه لهم {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتَكم لا أنا نحن أضللناكم.
وقولهم:
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طاغين} مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض إضلالهم بأنهم لم يَجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه.
وقولهم:
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قومًا طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعًا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قومًا طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضًا ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم:
{فأغويناكم} أي فدعوناكم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقًا بهم كان متفرعًا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أن رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: {إِنَّا كُنَّا غاوين} بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق.
ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه.
وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الايمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يوجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغير مرادًا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الايمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته وكثرتها وكنا جميعًا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حبًا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أنيكون {فأغويناكم} مفرعًا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم:
{فَحَقَّ عَلَيْنَا} [الصافات 31] الخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذاأن يراد بضمير الجمع في {فَحَقَّ عَلَيْنَا} الخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاذبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في {عَلَيْنَا} الخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر.